السبت، 19 مارس 2016

الترغيب والترهيب


الترغيب والترهيب

الحمد لله العزيز العليم، أحمده حمدا كثيراً، وأسبحه بكرةً وأصيلاً، الداعي إلى دار السلام، القائل سبحانه: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾ [الإنسان: 2] والصلاة والسلام على البشير النذير، والسراج المنير، محمد الصادق الأمين القائل-صلى الله عليه وسلم-:«بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار»(1)

من أفضل الأعمال، وأحسن الأقوال الدعوة إلى عبادة الكبير المتعال، وكفاها فخراً وفضلاً وشرفاً أنها عمل الأنبياء والمرسلين، ومن تبعهم من المؤمنين الصادقين، قال الله رب العالمين: ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[يوسف: 108]

وحرصوا كل الحرص على أن يستجيب الناس لدعوة الإيمان، مستخدمين وسائل متعددة، وأساليب متنوعة، فقال نوح -عليه السلام-: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً﴾ [نوح: 5-10], وقال الله لموسى -عليه السلام: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 44]

وما يستخدمونه من وسائل وأساليب إنما هي من أجل إيصال دعوة الإيمان إلى قلوبهم، وتعبيدهم لله الواحد القهار، ومن أساليب الدعوة إلى الله -عز وجل- الترغيب والترهيب، وهو أسلوبٌ فرآني، وخلق قويم، استعمله النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيراً في دعوته إلى الله -عز وجل-.

فأساليب الدعوة هامة في نجاح الداعي وإجابة الناس لدعوته، أما سمعت قول الله -عز وجل-: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159]

فإذا كان هذا مع خيرة الدعاة وإمام المتقين، محمد الصادق الأمين، فكيف بنا نحن المقصرين المفرطين إن لم نسع لاستخدام الأسلوب الأمثل والأحسن عند دعوة الناس إلى الله رب العالمين.

وما سنتكلم عنه في بحثنا على النحو الآتي:

أولا: المقصود بالدعوة لغةً واصطلاحاً.

ثانياً: معنى الترغيب والترهيب لغةً واصطلاحاً.

ثالثاً: حكم الدعوة إلى الله.

رابعاً: الترغيب والترهيب أسلوبٌ قرآني.

خامساً: الترهيب والترغيب أسلوبٌ نبوي:

أولا: المقصود بالدعوة لغةً واصطلاحاً:

1 - الدعوة في اللغة:

قال ابن فارس: الدال والعين والحرف المعتل أصلٌ واحد، وهو أن تميل الشيء إليك بصوتٍ وكلامٍ يكون منك، تقول: دعوت أدعو دعاءً.(2)

قال ابن منظور: "ودَعا الرجلَ دَعْواً ودُعاءً: ناداه، والاسم الدعْوة، ودَعَوْت فلانا، أَي صِحْت به واسْتَدْعَيْته، وتَداعى القومُ: دعا بعضُهم بعضاً حتى يَجتمعوا، والدُّعاةُ: قومٌ يَدْعُونَ إلى بيعة هُدىً أَو ضلالةٍ، وأحدُهم داعٍ ورجل داعِيةٌ إذا كان يَدْعُو الناس إلى بِدْعةٍ أَو دينٍ، أُدْخِلَت الهاءُ فيه للمبالغة والنبي -صلى الله عليه وسلم- داعي الله تعالى، وكذلك المُؤَذِّنُ، والداعية: صرِيخُ الخيل في الحروب؛ لدعائه مَنْ يَسْتَصْرِخُه يقال أَجِيبُوا داعيةَ الخيل، وداعية اللِّبَنِ ما يُترك في الضَّرْع ليَدْعُو ما بعده، ودَعَّى في الضَّرْعِ: أَبْقى فيه داعيةَ اللَّبنِ"(3)

2- المقصود بالدعوة اصطلاحاً:

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الدعوة إلى الله: هي الدعوة إلى الإيمان به، وبما جاءت به رسله بتصديقهم فيما أخبروا به وطاعتهم فيما أمروا، وذلك يتضمن الدعوة إلى الشهادتين، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، والدعوة إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله".(4)

ثانياً: معنى الترغيب والترهيب لغةً واصطلاحاً:

1- معنى الترغيب:

أ- معنى الترغيب في اللغة:

قال ابن منظور -رحمه الله-: الرَّغْبُ والرُّغْبُ والرَّغَبُ والرَّغْبَة والرَّغَبُوتُ والرُّغْبَى والرَّغْبَى والرَّغْبَاءُ الضَّراعة، والمَراغِبُ الأَطْماعُ.(5)

ب- معنى الترغيب في الاصطلاح: كل ما يشوق المدعو إلى الاستجابة، وقبول الحق والثبات عليه.(6)

2- معنى الترهيب:

أ- معنى الترهيب في اللغة:

رَهِبَ: كَعَلِمَ يَرْهَبُ رَهْبَةً ورُهْباً بالضَّمِّ والفَتْحِ ورَهَباً بالتَّحْرِيكِ، ورُهْبَاناً بالضَّمِّ: أَي خَافَ أَوْ مَعَ تَحَرُّزٍ كما جَزَمَ به صاحب كَشف الكشَّاف، ورَهِبَهُ رَهْباً: خَافَهُ، وأَرْهَبَهُ واسْتَرْهَبَه: أَخَافَهُ وفَزَّعَهُ واسْتَرْهَبَهُ: اسْتَدْعَى رَهْبَتَهُ حَتَّى رَهِبَهُ النَّاسُ، والرَّاهِبَةُ: الحَالَةُ التي تُرْهِبُ أَيْ تُفْزِعُ،والتَّرَهُّبُ: التَّعَبُّدُ وقيل: التَّعَبُّدُ في صَوْمَعَةٍ وقَدْ تَرَهَّبَ الرَّجُلُ إذا صَارَ رَاهِباً يَخْشَى اللهَ.(7)

ب- معنى الترهيب في الاصطلاح:

كل ما يخيف ويحذر المدعو من عدم الاستجابة، أو رفض الحق، أو عدم الثبات عليه قبوله.(8)

ثالثاً: حكم الدعوة إلى الله:

الدعوة إلى الله -عز وجل- من أعظم الأعمال وأحب الأقوال إلى الله، وعندما نتكلم عن أساليب الدعوة فإننا نبين حكمها حتى يتبين لنا أهمية هذه الأساليب فيها:

قال ابن تيمية -رحمه الله-: "الدعوة إلى الله تجب على كل مسلم لكنها فرض على الكفاية، وإنما يجب على الرجل المعين من ذلك ما يقدر عليه إذا لم يقيم به غيره، وهذا شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبليغ ما جاء به الرسول، والجهاد في سبيل الله وتعليم الإيمان والقرآن"(9)

ويقول في موضعٍ آخر: "والدعوة إلى الله واجبة على من اتبع الرسول وهم أمته وقد وصفهم الله بذلك كقوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الأعراف: 157] فهذه في حقه وفى حقهم قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران110]، وقوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 71] وهذا الواجب واجب على مجموع الأمة وهو فرض كفاية يسقط عن البعض بالبعض كقوله: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104] فجميع الأمة تقوم مقامه في الدعوة"(10)

ويقول تلميذه ابن القيم -رحمهما الله-: "فالدعوة إلى الله تعالى هي وظيفة المرسلين واتباعهم وهم خلفاء الرسل في أممهم والناس تبعٌ لهم، والله سبحانه قد أمر رسوله أن يبلغ ما أنزل إليه، وضمن له حفظه وعصمته من الناس وهكذا المبلغون عنه من أمته لهم من حفظ الله وعصمته إياهم بحسب قيامهم بدينه وتبليغهم لهم، وقد أمر النبي بالتبليغ عنه ولو آية، ودعا لمن بلغ عنه ولو حديثاً، وتبليغ سنته إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأن ذلك التبليغ يفعله كثير من الناس، وإما تبليغ السنن فلا تقوم به إلا ورثة الأنبياء وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه".(11) وقد ذكر ابن تيمية- رحمه الله- أن شأن الدعوة هو شأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد ذكرت في بحثٍ لي حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حكمه، ومما قلت فيه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم الواجبات الدينية التي دل على وجوبها القرآن الكريم والسنة النبوية، فقال الله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران:110]، وورد الأمر بذلك في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران: 104]

"وصيغة ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ﴾ صيغة وجوب؛ لأنها أصرح في الأمر من صيغة افعلوا لأنها أصلها، فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر غير معلوم بينهم من قبل نزول هذه الآية فالأمر لتشريع الوجوب، وإذا كان ذلك حاصلاً بينهم من قبل كما يدل عليه قوله: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ فالأمر لتأكيد ما كانوا يفعلونه ووجوبه وفيه زيادة الأمر بالدعوة إلى الخير، وقد كان الوجوب مقرراً من قبل بآيات أخرى مثل: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[العصر: 3]أو بأوامر نبوية، فالأمر لتأكيد الوجوب أيضاً للدلالة على الدوام والثبات عليه مثل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ﴾ [النساء: 136](12)

والواجبات الدينية منها ما يكون واجب عيني على كل مسلم لا يرتفع عنه الإثم حتى يقوم به المكلف، ومنها ما يكون فرضه على المسلمين فرض كفاية، إذا قام به البعض سقط عن الآخرين، وارتفع عنهم الإثم، وإذا تركه الجميع أثموا، ومن هذا الباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنه من فروض الكفايات، وقد يتعين على البعض حسب الأحوال والأشخاص.

- الأحوال التي يكون فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين:

الأحوال كثيرة ومتجددة ومنه على سبيل المثال:

أ- يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين على من تعينه الدولة الإسلامية للقيام به، ويسمى المحتسب، فهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر استجابة لأمر الله -عز وجل- وهو من جملة الأمة من حيث أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حقه فرض كفاية، إلا أنه صار عليه واجباً عينياً؛ لتعيينه من قبل الحاكم المسلم، فوجبت عليه طاعته؛ لأنه أمرٌ بطاعة وفيه مصلحة للأمة.

ب- إذا كان المعروف أو المنكر لا يعرفه إلا رجل واحد تعين عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الجهل بالشيء وعدم الاطلاع عليه عذرٌ في شريعتنا المطهرة يرفع الإثم عن صاحبه، والعلم بالواجب يقتضي العمل بالمعلوم على جميع العالمين به، إلا أنه في الكفائيات كفائي وفي العينيات عيني، ويكون عينياً في الكفائيات إذا لم يعلمه إلا رجلٌ واحدٌ.

جـ- إذا احتاج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جدال واحتجاج ومناقشة علمية كان فرض عين على كل من يصلح لذلك؛ لأن من لم يقدر على ذلك وليس بمقدوره واستطاعته فلا حرج عليه، فإنه لا تكليف إلا بمقدور، قال تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 86]

د- إذا كان أحد يقدر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يقوم به غيره فهو فرض عين عليه.

هـ- عند كثرة المنكرات وقلة الدعاة يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين.

رابعاً: الترغيب والترهيب أسلوبٌ قرآني:

القرآن الكريم هو منهل الدعاة إلى الله -عز وجل- وهو المورد الذي لا ينضب ماؤه، والمنهج القويم، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراطٍ مستقيم.

أنزل الله القرآن لهداية الناس ودعوتهم إليه سبحانه ورغبهم إن هم أطاعوا واتبعوا النور المبين، ورهبهم إن هم خالفوا واتبعوا كل شيطانٍ مريد، فكان أسلوب الترغيب والترهيب فيه واضحاً بيناً، فتارةً يدعوهم بالترهيب دون الترغيب، وتارةً بالترهيب دون الترغيب، وتارةً يجمع بينهما، قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه جعلنا الله ممن أطاعوا فيما أمر وترك ما عنه نهى وزجر، وصدقه فيما أخبر إنه قريبٌ مجيبٌ سميعُ الدعاء جوادٌ كريم وهاب"(13)

وإليك بيان ذلك بالأمثلة من كتاب الله -عز وجل-:

1- ما ذكر في القرآن من الترغيب.

والقرآن يرغب الناس لعمل الخير بأنواعٍ من الترغيب ومن الخير الذي رغبهم به بل هو كل الخير، هو الإيمان بالله -عز وجل- ورغبهم فيه بالحصول على الآتي:

أ- نيل رضى الله -عز وجل- وهو أعظم من نعيم الجنة بنص الكتاب والسنة، قال الله تعالى:

﴿وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 72]

قال ابن جرير الطبري -رحمه الله -: "وأما قوله: ﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ﴾(14)

وقال ابن كثير -رحمه الله-: "﴿وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ﴾(15)

وأما في السنة النبوية: فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الله -تبارك وتعالى- يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة؟ فيقولون: لبيك ربنا وسعديك فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا»(16)

فهذا الرضوان إنما هو للمؤمنين الذين رضو عن الله -سبحانه وتعالى- فرضي عنهم قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22], وقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾[الفتح: 18] وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ [البينة: 7-8]

ب- وأعظم ما رغب به القرآن الكريم دخول الجنة والنجاة من النار، قال تعالى: ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]

والترغيب بالجنة لمن آمن بالله في كتاب الله كثير:

قال الله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هَـذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [البقرة: 25]

﴿قلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران: 15], وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً﴾ [النساء: 57] وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ [يونس: 9], وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً﴾ [الكهف: 107], وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ [الحج: 14], وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾[البروج: 11]

ج- الولاية من الله لهم: ﴿وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران: 68]

د- التمكين لهم في الأرض: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[النور: 55]

هـ- الحياة الطيبة: قال الله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]

والترغيب في كتاب الله -عز وجل- كثير، وما ذكرناه إنما هو على سبيل المثال، فالقرآن رغب بأعمال كثيرة، وذكر ما يشوق إلى ذلك العمل من خيرٍ وفضلٍ في الدنيا والآخرة كما بينا في ترغيب القرآن بالإيمان. وما ذكرناه إنما هو على سبيل المثال، والقرآن الكريم مملوء بذلك.

2- ما ذكر في كتاب الله من الترهيب.

والترهيب في كتاب الله -عز وجل- لا يخفى، فلقد حذر الله من الكفر ووعد أهله بالنار وكذلك سائر المعاصي والمنكرات، قال الله تعالى: ﴿لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ [الزمر: 16]

وخوف الله من الشرك به والكفر بأنواعٍ من الترهيب ومنها:

أ- الغضب واللعنة ودخول النار: قال الله تعالى: ﴿وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً﴾ [الفتح: 6]

﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئاً وَأُولَـئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ﴾ [آل عمران: 10], وقال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة: 17], وقال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ﴾ [ص: 27]

ب- حبط الأعمال لأن الله لا يقبل عملاً من غير المؤمنين قال تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً﴾ [الفرقان: 23] وقال تعالى: ﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾[البقرة: 217], وقال الله تعالى: ﴿وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [المائدة: 5], وقال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾[الأعراف: 147], وقال الله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ﴾ [التوبة: 17], وقال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً﴾ [الكهف: 105]

3- ما ذكر الله في كتابه من الجمع بين الترهيب والترغيب.

جمع الله في كتابه بين الترغيب والترهيب، وعليه فإن الداعي الفطن يلزم في دعوته هذا الأسلوب الرباني، والمنهج القرآني، وإليك جملةً من الآيات الكريمة، التي جمع الله فيها بين الترغيب والترهيب، قال الله تعالى: ﴿فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [بالأنعام: 147] فالله -سبحانه- ذو رحمةٍ واسعة، قال - تعالى-:﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 156]

كيف لا وهو خالق الرحمة وما هذه الرحمة التي في الدنيا إلا جزءٌ من مائة رحمته وتسعة وتسعين في الآخرة ادخرها رحمةً لأوليائه، فعن الحسن قال بلغني أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لله -عز وجل- مائة رحمة، وانه قسم رحمة واحدة بين أهل الأرض فوسعتهم إلى آجالهم، وذخر تسعة وتسعين رحمة لأوليائه والله -عز وجل- قابض تلك الرحمة التي قسمها بين أهل الأرض إلى التسعة والتسعين فيكملها مائة رحمة لأوليائه يوم القيامة»(17)

ومع هذه الرحمة الواسعة فإن الله لا يرد بأسه عن القوم المجرمين الضالين عن الصراط المستقيم، مكا قال الله رب العالمين: ﴿فإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: 147]

وقال الله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ﴾ [الحجر: 49-50] وقال تعالى: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾[الأعراف: 56]

قال القرطبي -رحمه الله-: ﴿وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً﴾ أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوف وتأميل لله -عز وجل- حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان قال الله تعالى: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ﴾(18)

وقال الشوكاني -رحمه الله-: "ثم إنه سبحانه لما أمر رسوله بأن يخبر عباده بهذه البشارة العظيمة أمره بأن يذكر لهم شيئا مما يتضمن التخويف والتحذير حتى يجتمع الرجاء والخوف ويتقابل التبشير والتحذير ليكونوا راجين خائفين فقال: ﴿وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ﴾(19)

وقال تعالى: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ [غافر: 3](20), ويبين الله لنا في هذه الآية الكريمة أنه مع مغفرته للذنوب لمن تاب ورجع إليه، فإنه شديد العقاب لمن تكبر وطغى، قال ابن كثير -رحمه الله-: "وقوله عز وجل: ﴿غَافِرِ الذَّنبِ التَّوْبِ وَقَابِلِ التوب﴾ أي: يغفر ما سلف من الذنب، ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع لديه وقوله -جل وعلا-: ﴿شَدِيدِ الْعِقَابِ﴾ أي: لمن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى وهذه كقوله: ﴿نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ﴾ يقرن هذين الوصفين كثيراً في مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف"(21)

وقال ابن عاشور -رحمه الله-: "وتقديم: غافر، على: قابل التوب، مع أنه مرتب عليه في الحصول للاهتمام بتعجيل الإعلام به لمن استعد لتدارك أمره فوصف: غافر الذنب وقابل التوب، تعريض بالترغيب وصفتا: شديد العقاب ذي الطول، تعريض بالترهيب، والتوب: مصدر تاب والتوب بالمثناة والتوب بالمثلثة والأوب كلها بمعنى الرجوع أي الرجوع إلى أمر الله وامتثاله بعد الابتعاد عنه"(22)

وقال الله تعالى: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج: 12-16]وقال:﴿ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [الأنعام: 165], قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "﴿إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ﴾ أي: لمن عصاه وخالف شرعه﴿وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي: لمن تاب إليه وأناب وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة؛ لئلا يحصل اليأس فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب كثيراً لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف"(23)

وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الرعد: 6]

قال الثعالبي -رحمه الله-: "ثم رجى سبحانه بقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ﴾ ثم خوف بقوله: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ﴾(24)

وقال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40] قال ابن كثيرٍ -رحمه الله-: "قوله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ أي: إن نزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- والاتعاظ بالقرآن وزواجره وامتثال أوامره وتصديق أخباره، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"(25)

وقال تعالى: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 6-7]

قال ابن كثير -رحمه الله-: "وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط الحسية يوم القيامة المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة والتحذير من مسالك الباطل؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضالون"(26)

فلما كان القرآن هو ما دعا إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو النور المبين الذي اعتمد عليه في دعوته، والقرآن هو كلام رب العالمين، وهو المنهج القويم، والزاد العظيم، كان على الدعاة من المؤمنين أن يهتموا بكل ما ورد في كتاب الله ويستفيدوا من الأساليب الدعوية التي ذكرها القرآن الكريم، ومنها أسلوب الترغيب والترهيب.

خامساً: الترهيب والترغيب أسلوبٌ نبوي:

أئمة الدعاة إلى الله وقادة الهداة هم الأنبياء -عليهم السلام- ومن أساليبهم الدعوية التي قاموا بها أثناء دعوتهم الترغيب والترهيب، قال الله تعالى:﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأنعام: 48]

وقال: ﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُواً﴾ [الكهف: 56]

وقال تعالى: ﴿إنَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة: 213] قال أبو جعفر: وأما قوله: ﴿فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ فإنه يعني أنه أرسل رسلاً يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب وكريم المآب، ويعني بقوله: ﴿وَمُنذِرِينَ﴾(27)

وقال تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ [النساء: 165]

قال القرطبي -رحمه الله-: "﴿وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾أي: بالترغيب والترهيب، قال الحسن: مبشرين بسعة الرزق في الدنيا والثواب والآخرة يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ [الأعراف: 96] ومعنى منذرين: مخوفين عقاب الله فالمعنى: إنما أرسلنا المرسلين لهذا لا لما يقترح عليهم من الآيات، وإنما يأتون من الآيات بما تظهر معه براهينهم وصدقهم"(28).

وهذه الآيات الكريمة التي تتحدث عن هذا الأسلوب القرآني النبوي مجملة، وهناك الكثير من الآيات القرآنية التي فصلت وبينت حال بعض الأنبياء في دعوتهم لقومهم، ومنها:

عن نوح عليه السلام: ﴿أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 63]

وعن نوح عليه السلام أيضا: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [سورة نوح: 1-4]

وقال تعالى عن رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير ٌ* يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التغابن: 8-9]

ورسل الله إلى عباده إنما أرسلهم الله للنذارة والبشارة، بل سمى الله رسله نذراً كما قال الله تعالى: ﴿قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ﴾ [يونس: 101], وقال الله تعالى:﴿وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتْ النُّذُرُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾[الأحقاف: 21], وقال الله تعالى: ﴿هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الْأُولَى﴾ [النجم: 56], وقال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر: 23], وقال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ﴾ [القمر: 33], وقال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ﴾ [القمر: 41], وقال الله تعالى: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ﴾ [البقرة: 119]

وسيد الخلق والمرسلين دعا إلى الله بالترهيب والترغيب، ومن أمثلة ذلك ما رواه أنس ابن مال -رضي الله عنه- قال: بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أصحابه شيء فخطب، فقال: «عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» (29)

ومن أحاديث الرجاء والترغيب ما حدث به أبو ذر -رضي الله عنه- قال أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وعليه ثوبٌ أبيضٌ وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ فقال: «ما من عبدٍ قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق» قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: «وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر»(30)



الخاتمة:

إن المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء، يخاف أن تحل به نقمة الله، أو أن ينزل عليه عذابه، ويرجو رحمة الله -عز وجل- الذي وسع كل شيءٍ رحمةً وعلماً، فيعبد الله بالخوف والرجاء.

ولهذا كان دأب القرآن في الحث على البر والإحسان والنهي عن الإثم والعدوان هو الترهيب والترغيب، والمؤمن يظل على ذلك الأمر حتى يلقى الله -عز وجل- فعن أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على شابٍ وهو في الموت فقال: «كيف تجدك؟» قال: والله! يا رسول الله! إني أرجو الله وإني أخاف ذنوبي فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف»(32)

والداعية إلى الله -عز وجل- عليه أن يسلك في دعوته الترهيب والترغيب حتى يعيش المدعوون في خوفٍ من عذاب الله وسخطه ورغبةٍ في ما عند الله من رحمته ورضوانه، والنفس البشرية إذا ما خافت الشيء كفت عنه، وإذا ما رغبت بالشيء استمرت عليه وألفته، والداعية اللبيب هو من يلامس بدعوته قلوب الناس ترهيباً وترغيباً، ويتحين الظروف المناسبة والملائمة لكلٍ منهما، فتارةً يدعو بالترهيب وتارة بالترغيب وتارة يجمع بين الترغيب والترهيب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق